الصلاة و السلام على سيدنا محمد وعلى آله و أزواجه الطاهرات و على صحابته الكرام
طلب مني أخي (رؤبة) أن أذكر ما كتبه العلامة (محمود محمد شاكر) في حب المتنبي لأخت سيف الدولة في كتابه (المتنبي ... رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ) و لن أرد طلبه ليس لأنه عضو في هذا المنتدى فحسب أو شخص أحببته و لكن لأنه (رؤبة بن العجاج) .
أخواني و أخواتي :
هذا باب كامل نقلته لكم بالتمام و الكمال من صفحة (333) إلى (355) , فأرجو منكم قراءتها بتمعن و بقلب متفرغ صادق , و رجائي هذا لسببين :
الأول : هو الكم العلمي الموجود في هذه الورقات من شيخنا العلامة , فهو ليس كلاماً يكتب أو مداداً يُجَرّ , بل لو قرأتم ما قرأته في مقدمة هذا الكتاب في كيفية وصول الشيخ إلى منهجه هذا لما استقللتم الدقائق في قراءة هذه الورقات أو الساعات في قراءة الكتاب .
الثاني : حب الخير لكم , أريد منكم أن تستمتعوا و تستلذوا مع فن قراءة ما بين السطور , فهو فن لا يجيده إلا النوابغ وهم للأسف قلة .
بسم الله أبدأ ..............
المصدر :
الكتاب : (المتنبي .. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ) .
المؤلف : ( الدكتور محمود محمد شاكر) .
الناشر : ( مطبعة المدني ) و (دار المدني بجدة) .
تاريخ الطبعة : (1407 هـ -1987م ) .
(سنة 337-346) حبُّه "خولة" أخت سيف الدولة .
لعينيك ما يلقى الفؤاد و ما لقي..... و للحب ما لم يبق مني وما بقي
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر , فهو الدهر يرجو و يتقي
سقى الله أيام الصِّبا ما يسرها ... و يفعل فعل البابلي المعتَّق
إذا ما لبست الدهر مستمتعاً به ... تخرقت و الملبوس لم يتخرق
\ ....... قد رأيت قبل أن الحوافز التي اجتمعت على أبي الطيب من أول أمره إلى عهد اتصاله بسيف الدولة , إنما كان ترفُّقا من القدر و تمهيداً للنبوغ الفذ الذي صار به صاحبنا شاعر العرب و لسان العربية الذي استحكم في عصره , و ضرب بحكمته على من كان قبله , ومن أتى بعده . و قد ذكرنا من أداة نبوغه و أسبابه ما تيسر لنا جمعه في هذه الكلمة , إذ كانت الأشياء مرهونة بأوقاتها من المعاني و منازلها من الكلام .
و رأيت أن اتصاله بسف الدولة نقل قلب الرجل من منزلة إلى أخرى , نقله من منزلة الإحساس الشخصي الموحد , إلى منزلة الإحساس الشخصي المتولج في الاجتماع المزاحم في سياسته , المؤمِّلِ في سيف الدولة رد السلطان إلى العرب و العربية , بعد الغلبة و الظفر و تحقيق الأماني . وكان هذا سبباً في انتفاض قلب (الرجل الشاعر) بالفرح المستولي عليه , الغالب على عواطفه . ثم أيضاً ما استنبطناه مما سبَّبَ في هذا القلب أسباباً للألم الحزن والأنين و البكاء و الحسرة فصار التنازع في هذا القلب بين الفرحة الغالبة و الحسرة المتمكنة , سبباً في استخراج مكنوناته , وتوليد المعاني الجديدة من الصراع الهائل الذي كان فيه . و بذلك خرج أبو الطيب عن طوره الأول المحدود بحدِّه , إلى الطور الثاني المتفاسح المترامي إلى كل غايات الحياة و أسبابها وما يكون فيها وما يكون منها .
وكان هذا الرجل الشاعر إنما يعتمد في توليد معاني شعره على استيعاب ما بنفسه من الأفراح و الآلام , ما تقادم منها وما جدّ , ثم الاستغراق في تأمل هذه الذخائر التي في نفسه وردّ بعضها إلى بعض , و ربط الغائب منها بالشاهد , و عطف الأول منها على الآخر , و كأنما كانت تتراءى لعينيه حوادث قلبه وحوادث دهره , و تتردّد في سمعه أصوات قلبه موصولة بأصوات الناس و كلامهم ما قلّ منها وما عظم . وكان هذا الاستغراق في تأمل ما بنفسه , هو أحد الأسرار العظيمة في تصوير شاعريته , وتسويتها و تنشئتها و تغذيتها و تنميتها إلى الغاية التي هي عليها في شعره .
و قد بينا قبل أن من أداة هذا الشاعر العظيم ما أودعه الله فيه من الحس المرهف , وما وهبه من العاطفة الملتهبة المتوقدة التي لا يخبو لها ضرام , وراثة كان ذلك من جدته , أو فطرة فطره الله عليها غير موروثة . وكان هذا الرجل في أول أمره مطالباً بثأر قد نشئ عليه , وأخذ به من صغره , حتى شغل فكره و عقله , وتدفق في بنيانه كله تدفق الدم , و صار أصلاً من الصول التي قامت عليها كل حالته النفسية = على ما ذكرناه أولاً , و تدرجنا في بيانه إلى عهد اتصاله بسيف الدولة = وقد بلغ من العمر أربعاً وثلاثين سنة , و هي السن التي تستحكم فيها الأصول , و تستقر المذاهب , و يقف الرجل عندها لا يملك في تبديل أمره حولاً ولا قوة إلا أن يشاء الله , و خاصة من كل مثل المتنبي قد عركته الأيام من صغره , و تحاملت عليه و رمت به تنورها حتى استوى على صورة بعينها , واستمر مريره على ما فيه القوة المستحصدة و المنة الدائبة الفورة و النزاع , لا تستقر ولا تهدأ ولا تطمئن .
هذا , ....... وقد استوقفنا , ونحن نتتبع شعر الرجل على طريقتنا و مذهبنا , الفرق الكبير الكائن بين شعره الأول , وشعر الذي قاله في حضرة سيف الدولة , وتدبرنا الأسباب عل ما بيناه قبل , فلم يستو عندنا أن يكون ذلك من أجل ما ذكرناه قبل وحسب , فعدنا نجدد الرأي لذلك , ونقرأ ما بين كلمات الرجل من المعاني , و نستنبط من روائع حكمه وبلاغته ما يهدينا إلى السبب الأكبر في هذا التجويد الفذّ الذي غلب به الرجل على شعراء العربية , فاستروحنا في شعر الرجل نفحة من نفحات "المرأة" التي تكون من وراء القلب تصنع للشاعر المبدع بيانه , و تتخذ من فنها النسوي مادة تهيئها لفن صاحبها و عبقريته و نبوغه . فأتممنا الأمر على ذلك , ورجعنا إلى شعر أبي الطيب وما وقفنا عليه من أسرار نفسه , وتمثلنا "المرأة" بينهما وهي دائبة تصنع له بيانه و تهيئ له فنه , فاستوى الأمر على ذلك . وطلبنا الدليل , فدلنا على المرأة التي سكنت قلب أبي الطيب وهو في ظل سيف الدولة و جعلته حكيم الشعراء و شاعر الحكماء .
كان صاحب الحكمة أبو الطيب يصنع حكمته بالتدبر في معرفة نفسه , و استبطان أسرارها و إدراكها , فلما جاءته "المرأة" و أرادت كبرياءه على الخضوع لها و التصرف بأمرها , وقعت نفس هذه المرأة بأسرارها و أحداثها في نظرات أبي الطيب النافذة المتولجة إلى ما وراء الواقع و الحس الملموس , و بين نفسه بأحداثها و أسرارها و ما انطوت عليه و ما تجللت به , ولما كانت نفس المرأة المحبوبة هي تمام نفس الرجل المحب و تكملتها , كانت دراسة الحكيم المحب لنفسه المكملة التامة بالمرأة المحبوبة , إنما هي دراسة للكون له , فإن العاشق لا يرى الدنيا بأسرارها إلا بعيني من يعشق , وهي على ذلك الدنيا المترامية , بعد أن كانت قبل عشقه محصورة في دائرتها من نفسه الناقصة غير التامة . و الحب القوي النافذ الذي يتملك حواس المحب و يغلب عليها , هو بطبيعته امتداد بهذه الحواس إلى غايات بعيدة لم تكن تصل إليها قبل غلبته على القلب و النفس و الفكر. فلهذا حين أحب أبو الطيب = الرجل الثائر المتكبر الشاعر الحكيم البياني الفكر و اللسان = كان امتداد نفسه و تراميها إلى غايات بعينها من الرجولة و الثورة و الكبرياء و الحكمة و الفكر , ولم يستطيع أن يكون بعد أن غلب الحب قلبه و تفاسح به , شاعراً غزلاً رقيق البيان . و هذا هو السر عندنا في ضعف مادة الغزل عند أبي الطيب , و قوة مادة الحكمة وما إليها , مما هو من طبيعته المتأصلة فيه على ما فصلناه في أثناء كلامنا . وليس يصح عندنا أن لا يكون أبو الطيب عاشقاً صبَّاً متدَّلهاً , ما لم نجد في شعره غزلاً ولا أنيناً و حنيناً و بكاءً .
و الآن , و بعد هذه المقدمة , نحاول أن نعين لك "المرأة" التي أحبها أو الطيب على ما يتفق لنا , إذ كان ترتيب هذا الموضع من الكلام مما يستدعي النظر في أكثر شعر أبي الطيب و تقليبه على المذهب الذي اتخذناه , فيخرج الأمر من حدّه ولا تتسع له هذه الورقات .
لما ماتت أخت سيف الدولة الصغرى , وقف أبو الطيب يعزيه و يرثيها , و يسليه ببقاء أخته الكبرى, وذلك في يوم الأربعاء للنصف الثاني من شهر رمضان سنة 344هـ , وبعد سبع سنوات من مقامه في حضرة سيف الدولة , فأنشده قصيدته التي أولها :
إن يكن صبرُ الرزيئة فضلا .... تكن الأفضلَ الأعزّ الأجلاّ
و طفق يمدح سيف الدولة بمناقبه مما يصلح لهذا الموضع من العزاء , إلى أن قال :
أينَ ذي الرِّقّةُ التي لَكَ في الحَرْ......بِ إذا استُكرِهَ الحَديدُ وَصَلاّ
أينَ خَلّفْتَهَا غَداةَ لَقِيتَ الـ........ـرّومَ وَالهَامُ بالصّوارِمِ تُفْلَى
قاسَمَتْكَ المَنُونُ شَخْصَينِ جوْراً.....جَعَلَ القِسْمُ نَفْسَهُ فيهِ عَدْلا
فإذا قِسْتَ ما أخَذْنَ بمَا غَا..........دَرْنَ سرّى عَنِ الفُؤادِ وَسَلّى
وَتَيَقّنْتَ أنّ حَظّكَ أوْفَى..........وَتَبَيّنْتَ أنّ جَدّكَ أعْلَى
فأبو الطيب يطلب من سيف الدولة أن يقيس أخته الصغرى التي ماتت , إلى أخته الكبرى التي بقيت , فإذا فعل ذلك كان يلوى له و تسريه للهم عن قلبه . ولا ندري كيف يتفق أن يخطر لشاعر يرثي امرأة محجبة ماتت , أن يذكر أخرى = و تكون أختها = و يعزي أخاها بهذا العزاء الغريب ؟ ثم يزيد فيقول له : إنك إذا فعلت ذلك الذي دللتك عليه "تيقنت" أن حظك في بقاء هذه الكبرى أوفى من حظ الموت في أخذ الصغرى ؟ و كيف يُيقِّن أبو الطيب سيف الدولة من حسن حظه ببقاء الكبرى , إلا إذا كان هو على يقين من ذلك ؟ وكيف يكون على يقين من ذلك , إلا وهو يعرفها معرفة تفضي به إلى هذا اليقين ؟
ثم مضى أبو الطيب في القصيدة كلها يمدح سيف الدولة , ولم يتعرض لهذه الفتاة أخته الصغرى إلا في موضع آخر , إذ يقول :
خِطْبَةٌ للحِمامِ لَيسَ لهَا رَدٌّ........وَإنْ كانَتِ المُسمّاةَ ثُكْلا
وَإذا لم تَجِدْ مِنَ النّاسِ كُفأً...........ذاتُ خِدْرٍ أرَادَتِ المَوْتَ بَعلا
فالعجب أن يكون ذلك عزاء ..... , فإن أبا الطيب قد قدّم الكبرى في المنزلة , فكان أولى إذن أن تموت الكبرى , إذ هي ولاشك عند أبي الطيب أفضل من هذه الصغرى التي لم من الناس كفئاً يكون لها زوجاً , فاختارت الموت بعلاً لها !! و هذا التناقض يدلنا على أن الرجل كانت قد اقترنت في عينه صورة الكبرى بصورة الصغرى , فاضطرب قوله ولم يمض على سنن ونهج , وذلك لاضطراب نفسه الذي أظهر ما في قلبه و كسف عنه تدفقه حين ذكر هذه الكبرى فقال فيها البيتين : (( فإذا قست ......... الخ )) .
قلما ماتت الكبرى هذه التي ذكرها هنا = وهي خولة أخت سيف الدولة , في سنة 352هـ , أي بعد ذلك بسنوات ثمان , وكان أبو الطيب يومئذ بالكوفة , فورد عليه خبرها , فكتب إلى سيف الدولة قصيدة فيها (44) بيتاً , منها واحد وثلاثون في ذكر خولة هذه , و ستة أبيات في ذكر الدنيا و نكدها , ولم يذكر سيف الدولة إلا في سبعة أبيات منها . هذا مع أن القصيدة التي رثى بها الصغرى , لم يذكر فيها الصغرى مفردة , إلا في بيتين هم : (خطبة للحمام ......) , وذكر الكبرى ومعها الصغرى في ثلاثة أبيات هي (قاسمتك المنون .......) , وجعل بقية القصيدة , وعدتها (42) بيتاً , في مدح سيف الدولة , إلا قليلاً في الحكمة والحياة . أليس هذا عجيباً !
كان الفرق بين القصيدتين بيناً واضحاً لا خفاء فيه , وكانت الثانية في رثاء "خولة" عاطفة قد أخذها الحزن و غلبها البكاء .... يقول أبو الطيب , و افتتحها بخطاب خولة :
يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبِ........كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ
أُجِلُّ قَدْرَكِ أنْ تُسْمَيْ مُؤبَّنَةً...........وَمَنْ يَصِفْكِ فَقد سَمّاكِ للعَرَبِ
لا يَمْلِكُ الطّرِبُ المَحزُونُ مَنطِقَه..........وَدَمْعَهُ وَهُمَا في قَبضَةِ الطّرَبِ
غدَرْتَ يا مَوْتُ كم أفنَيتَ من عدَدٍ..........بمَنْ أصَبْتَ وكم أسكَتَّ من لجَبِ
وكم صَحِبْتَ أخَاهَا في مُنَازَلَةٍ............وكم سألتَ فلَمْ يَبخَلْ وَلم تَخِبِ
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ............فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً.............شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
تَعَثّرَتْ بهِ في الأفْوَاهِ ألْسُنُهَا.............وَالبُرْدُ في الطُّرْقِ وَالأقلامُ في الكتبِ
كأنّ "خولة" لم تَمْلأ مَوَاكِبُهَا................دِيَارَ بَكْرٍ وَلم تَخْلَعْ ولم تَهَبِ
وَلم تَرُدّ حَيَاةً بَعْدَ تَوْلِيَةٍ..............وَلم تُغِثْ داعِياً بالوَيلِ وَالحَرَبِ
أرَى العرَاقَ طوِيلَ اللّيْلِ مُذ نُعِيَتْ..........فكَيفَ لَيلُ فتى الفِتيانِ في حَلَبِ
يَظُنّ أنّ فُؤادي غَيرُ مُلْتَهِبٍ..............وَأنّ دَمْعَ جُفُوني غَيرُ مُنسكِبِ
بَلى وَحُرْمَةِ مَنْ كانَتْ مُرَاعِيَةً............لحُرْمَةِ المَجْدِ وَالقُصّادِ وَالأدَبِ
وَمَن مَضَتْ غيرَ مَوْرُوثٍ خَلائِقُها............وَإنْ مَضَتْ يدُها موْرُوثَةَ النّشبِ
وَهَمُّهَا في العُلَى وَالمَجْدِ نَاشِئَةً.............وَهَمُّ أتْرابِها في اللّهْوِ وَاللّعِبِ
يَعلَمْنَ حينَ تُحَيّا حُسنَ مَبسِمِها............وَلَيسَ يَعلَمُ إلاّ الله بالشَّنَبِ
..............................................................
..............................................................
وَإنْ تكنْ خُلقتْ أُنثى لقد خُلِقتْ............كَرِيمَةً غَيرَ أُنثى العَقلِ وَالحَسبِ
.............................................................
فَلَيْتَ طالِعَةَ الشّمْسَينِ غَائِبَةٌ.................وَلَيتَ غائِبَةَ الشّمْسَينِ لم تَغِبِ
وَلَيْتَ عَينَ التي آبَ النّهارُ بهَا...............فِداء عَينِ التي زَالَتْ وَلم تَؤبِ
............................................................
وَلا ذكَرْتُ جَميلاً مِنْ صَنائِعِهَا.............إلاّ بَكَيْتُ وَلا وُدٌّ بلا سَبَبِ
قَد كانَ كلّ حِجابٍ دونَ رُؤيَتها.............فَمَا قَنِعتِ لها يا أرْضُ بالحُجُبِ
وَلا رَأيْتِ عُيُونَ الإنْسِ تُدْرِكُها.............فَهَلْ حَسَدْتِ عَلَيها أعينَ الشُّهبِ
وَهَلْ سَمِعتِ سَلاماً لي ألمّ بهَا.............فقَدْ أطَلْتُ وَما سَلّمتُ من كَثَبِ
وَكَيْفَ يَبْلُغُ مَوْتَانَا التي دُفِنَتْ..............وَقد يُقَصِّرُ عَنْ أحيائِنَا الغَيَبِ
...........................................................
.............................................................
قد كانَ قاسَمَكَ الشخصَينِ دهرُهُما........وَعاشَ دُرُّهُما المَفديُّ بالذّهَبِ
وَعادَ في طَلَبِ المَترُوكِ تارِكُهُ...........إنّا لَنغْفُلُ وَالأيّامُ في الطّلَبِ
مَا كانَ أقصرَ وَقتاً كانَ بَيْنَهُمَا............كأنّهُ الوَقْتُ بَينَ الوِرْدِ وَالقَرَبِ
و لست تخطئ فيما نرى , ما تضمنته هذه الأبيات من القصيدة من العاطفة التي عطفته على هذه التي يرثيها , وما يتوهج في ألفاظها من نيران قلبه . ولست تخطئ أنين الرجل و حنينه و بكاءه . ولا بد لنا هنا من بعض القول في أبيات منها نشرح به أمر أبي الطيب على وجهه .
قد ذكرنا قبل أن الانتقال من معنى إلى معنى في شعر أبي الطيب , هو الموضع الذي ينبغي لنا الوقوف عنده و تمييزه و التبصر في أوائله و أواخره , إذ كان الانتقال في شعره هو الذي يعينك على الكشف عن أسرار قلبه و نفسه و حياته . فإذا شئت الآن فانظر إلى انتقاله من قوله في مخاطبة الموت : ((وكم صحبت أخاها في منازلة ! )) إلى ذكر ما أفزعه و كربه , وهزّ نفسه وحزّ فيها إذ يقول :
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ............فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً.............شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
و الرأي عندنا أن هذين البيتين هما أول ما قاله أبو الطيب من القصيدة حين بلغه خبر موت حوله وهو بالكوفة , ففزع قلبه , واضطرب أمره , وانتشرت عليه عواطفه , ففي البيتين أثر قلبه الفزع المضطرب , وعليها وسمٌ من لوعته و حرقته .
و قد غلب أبا الطيب بيانه في هذين البيتين , فصرّح فيهما بكل ما يضمر لخولة من الحب . أنظر كيف جعل الخبر يطوي الجزيرة كلها يقصده وحده دون غيره , وقد خصّص ذلك بقوله (حتى جاءني) , وفي هذا من غلبة الحب على قلب أبي الطيب ما جعله يرى أن هذا الخبر بموتها = الذي سمعه وهو بالعراق , وقد كان قد علمه الناس ولا شك = لم يقطع أرض الجزيرة إلا ليبلغه هو , و الحب دائما يخص و يضيّق بمثل ذلك . ولا يرى فيه الشَّرِكة , ولو تساوى الناس جميعاً في المشاركة فيه أو العلم به . ثم إن أبا الطيب نسب الفزع الذي لحقه إلى آماله , إذ كانت آماله كلها في الحياة بعد حبه خولة متعلقة بها و بحياته , فلما جاءه الخبر بموتها فزعت آماله هذه أملاً أملاً إلى الشك في الأمر الواقع , و إلى طلب الحيلة في رده و تكذيبه , عسى أن تجد لها متعلقاً تستمسك به . فلما أخفقت الآمال أملاً أملاً , وقطّعها الخبر الذي سمعه بالصدق و اليقين , سقطت نفس الرجل ولم تستمسك على رجولتها و قوتها , وغرقت في دمعها حتى شرقت به . وهذه حالة في الحب القوي العنيف الذي يستولي على القلب , ولا يجعل للحياة بآمالها معنى إذا فقد من يحب , أو ساءه من أمره ما يسوءه . فهذا من أبي الطيب دليل على أن كلامه هذا ليس كلام شاعر يرثي أخت صديقه و أميره , و إنما هو كلام قلب محب مفجوع قد تقطعت آماله من الدنيا بموت حبيب قد فجعته المنية فيه .
ومثل ذلك في الدلالة على ما أصاب قلب أبي الطيب من الفجيعة التي تخصه بموت "خولة" , قوله :
أرَى العرَاقَ طوِيلَ اللّيْلِ مُذ نُعِيَتْ..........فكَيفَ لَيلُ فتى الفِتيانِ في حَلَبِ
يَظُنّ أنّ فُؤادي غَيرُ مُلْتَهِبٍ..............وَأنّ دَمْعَ جُفُوني غَيرُ مُنسكِبِ
فليس يطول الليل على شاعر من أجل أخت أمير , و إنما يطول عليه من أجل حبيبته التي فاته بها الموت . ثم زاد أبو الطيب في الدلالة بقوله : إن سيف الدولة يظن أن فؤاده غير ملتهب , وأن دمعه غير منسكب , وما لسيف الدولة و لهذا ؟ أيحب سيف الدولة أن يلتهب قلبه و ينسكب دمعه من أجل أخته , أو يسوءه إذا لم يكن ذلك كذلك ؟
هذا , ولا نشك نحن = من قِبل ما جمعناه عندنا من الدلائل في هذا الأمر المتعلق بحب أبي الطيب و خولة أخت سيف الدولة = في أن سيف الدولة كان على علم بما كان بينهما من المحبة الغالية على أمرهما , و أنه كان قد وعد أبي الطيب عِدَةً لم يفِ له بها في أن يزوجه أخته هذه , وكان ذلك سراً بينهما , اتصل بعض خبره بأبي فراس الحمداني , فكان سبباً في العداوة الباغية بين الرجلين . لولا علم سيف الدولة بذلك لما استباح أبو الطيب لنفسه أن يكتب هذه القصيدة إلى سيف الدولة , على كثرة الإشارات فيها إلى أمره و أمر (خولة) و الحب الذي بينهما .
ومن الشواهد غير ما ذكرناه مما يدل على الحب الذي بينهما دلالة واضحة لا تخفى على مثل سيف الدولة , قوله :
وَمَن مَضَتْ غيرَ مَوْرُوثٍ خَلائِقُها............وَإنْ مَضَتْ يدُها موْرُوثَةَ النّشبِ
وَهَمُّهَا في العُلَى وَالمَجْدِ نَاشِئَةً.............وَهَمُّ أتْرابِها في اللّهْوِ وَاللّعِبِ
يَعلَمْنَ حينَ تُحَيّا حُسنَ مَبسِمِها............وَلَيسَ يَعلَمُ إلاّ الله بالشَّنَبِ
الأبيات الثلاثة , فقد ذكر أبو الطيب أخلاق خولة , ثم ذكر ما كانت عليه من علو النفس و الهمة منذ نشأتها , ثم ذكر ثغرها ابتسامتها , وهذه كافية في الدلالة على معرفته (خولة) معرفة صحيحة عن خبرة ولقاء , وأيضاً قوله :
وَلا ذكَرْتُ جَميلاً مِنْ صَنائِعِهَا.............إلاّ بَكَيْتُ وَلا وُدٌّ بلا سَبَبِ
وهذا دليل على ما كانت تسبغ عليه (خولة) من صنائعها و فواضلها مما يستجلب له البكاء حين يذكرها , وما نظن أن صنائع "خولة" عنده كانت معشار صنائع سيف الدولة , ولكن حب أبي الطيب هو الذي جعل صنائعها من قلبه بهذه المنزلة . ثم تدبّر قوله : (ولا ودٌّ بلا سببِ) , وفي رواية أخرى (بلا ود ولا سبب) , وكأن هذه الرواية الثانية بها نفي أمر بعينه , كان الوشاة يكثرون القول فيه عند سيف الدولة مع علمه بالأمر الذي بينهما من أن صنائع "خولة" التي كانت تتخذها عند أبي الطيب لم تكن من أجل هذا الود , وإنما كانت من كرم نفسها ز طيب عنصرها . ويكون المقصود بهذه الرواية غير سيف الدولة , ممن كان يتزيد في القول و يتكذب عليه بما هم منه براء , ولينفي التهم بذلك عن هذه التي كان يحبها و يمنحها قلبه .
وإذا شئت الزيادة فاقرأ قوله :
فليت طالعة الشمسين غائبة .............................................
و تدبر البيتين وما فيهما من العاطفة ......... فاقرأ :
وهل سمعت سلاماً لي ألمَّ بها .............................................
ثم أنظر إلى هذا الالتفات إلى الماضي الذي جعلناه من المذهب في الكشف عن أسرار أبي الطيب , إذ ذكر ما كان من حين رثى أخت سيف الدولة الصغرى من ذكر "خولة" هذه , وذلك إذ يقول :
(( قاسمتك المنون شخصين جوراً..............................))
فعاد يقول في هذه :
(( قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ...... وعاش دُرُّهما المفدى بالذهب ))
(( وعاد في طلبِ المتروكِ تاركه........... إنَّا لنغفلُ و الأيامُ في الطلبِ ))
و تدبّر الصلة بين هذا و ذاك , و الحسرة المتميزة في قوله : (( إنا لنغفل ........)) , و (( ما كان أقصر وقتاً كان بينهما )) .
و ندع هذا الآن , و ننتقل بك في مواضع من الديوان على غير ترتيب , لترى أثر هذا الحب في شعر أبي الطيب و في حياته , وما أصابه وهو في ظل سيف الدولة من جراء هذا الحب , وكان حق هذا الموضع من هذا الباب أن نتتبع لك حياة أبي الطيب سنة سنة , و نكشف لك عن تدرج هذا الحب في شعره وقصائده حتى تنتهي إلى الغاية و لكن ..........
وقف المتنبي في مجلس سيف الدولة ينشده قصيدة التي أولها :
واحرَّ قلباهُ ممن قلبهُ شَبِمُ ......... ومن بجسمي و حالي عنده سقم
وقد زعموا أن سبب هذه القصيدة كان على ما قالوا .......(( جرى له خطاب مع قوم متشاعرين , وظن الحيف عليه و التحامل )) , إلى غير ذلك . و قد أتى المتنبي في هذه القصيدة بكل عجيبة من القول في الكبرياء و الحب لسيف الدولة و الوعيد له , كقوله :
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا............بأنني خير من تسعى به قدم
.........................................................
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم............. و يكره الله ما تأتون و الكرم
وقوله في حب سيف الدولة :
يا من يعز علينا أن نفارقهم ........... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
و قوله في إنذاره :
لئن تركن ضُميراً عن ميامننا.......... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا .......... ألا تفارقهم فالراحلون هم
قالوا : فلما أنصرف أبو الطيب من مجلس سيف الدولة , وقف له رجّالة في طريقه ليغتالوه , فلما رآهم أبو الطيب ورأى السلاح تحت ثيابهم , سلَّ سيفه وجاءهم حتى اخترقهم فلم يقدموا عليه . ونمى ذلك إلى أبي العشائر , فأرسل عشرة من خاصته فوقفوا بباب سيف الدولة , وجاء رسوله إلى أبي الطيب , فسار إليهم حتى قرب منهم , فضرب أحدهم يده إلى عنان فرسه , فسلَّ أبو الطيب سيفه , فوثب الرجل أمامه , و تقدمت فرسه الخيل , وعبرت قنطرة كانت بين يديه , و اجترهم إلى الصحراء , فأصاب أحدهم نحر فرسه بسهم , فانتزع أبو الطيب السهم ورمى به , واستقلّت الفرس , و تباعد بهم ليقطعهم عن مددٍ كان لهم , ثم كرَّ عليهم , بعد أن فنى النشّاب ........ فلما يئسوا منه , قال له أحدهم في آخر الليلة : نحن غلمان أبي العشائر ! فقال قصيدته (( ومنتسب عندي إلى من أحبه)) ثم عاد أبو الطيب إلى المدينة مستخفياً , فأقام عند صديق له و المراسلة بينه وبين سيف الدولة , وسيف الدولة ينكر أن يكون قد فعل به ذلك أو أمر به ......... وكان ذلك سنة 341هـ , فلما رضي عنه سيف الدولة , قال له قصيدته أولها :
أجابَ دَمعي وما الدّاعي سوَى طَلَلِ...........دَعَا فَلَبّاهُ قَبلَ الرَّكبِ وَالإبِلِ
ظَلِلْتُ بَينَ أُصَيْحابي أُكَفْكِفُهُ..............وَظَلّ يَسفَحُ بَينَ العُذْرِ وَالعَذَلِ
أشكُو النّوَى ولهُمْ من عَبرَتي عجبٌ...........كذاكَ كنتُ وما أشكو سوَى الكِلَلِ
ثم انتقل من هذا المعنى إلى معنى غيره فقال :
و ما صبابة مشتاق على أمل................ من اللقاء , كمشتاق بلا أمل
و كأنه بهذا الانتقال يهوّن على سيف الدولة الأمر , و يذكر له أن هذا الحب الذي بينه وبين "خولة" كائن على غير أمل , وأنه لا يطمع في أن يظفر بإدراك أمله من زواجها . ثم يدلّل على ذلك بما كان من الحادثة التي كاد يقتل فيها , و التي تولى أمرها أبو العشائر (وهو من قوم خولة) , و يذكر لسيف الدولة أن أهل "خولة" لن يدعوه أن يكون بينه و بينها صلة كما بلّغه الوشاة , فانتقل من معنى البيت إلى قوله :
متى تَزُرْ قومَ من تهوى زيارتها............. لا يُتْحِفُوكَ بغيرِ البِيضِ و الأَسَلِ
وهذه صفة ما لقي أبو الطيب في ذلك اليوم الذي رويناه لك . فانظر إلى هذا الانتقال الذي يدل دلالة واضحة على ما في ضمير الرجل , وما كان من سبب تلك الحادثة التي كادت تودي بحياته , ثم أنظر الترفق في قوله (لا يتحفوك بغير البيض و الأسل) , وذلك لما بينه وبين أبي العشائر من المودة و المحبة , فهو يجعل أداة القتل (تحفة) , وقد قال لأبي العشائر في هذه الحادثة نفسها أبياتاً تدل على حبه له , وتقرب إليك بيان هذا المعنى , وقد مضى ذكرها , و يقول له في آخرها :
فإن كان يبغي قتلها , يكُ قاتلاً............ بكفيه , فالقتل الشريف شريف
و في تلك السنة نفسها , سنة 341هـ , يقول أبو الطيب ما نقلناه في رأس هذا الباب :
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ............. وللحب ما لم يبق مني و ما بقي
فعلى ما نذهب إليه من شدة تأثير الحوادث في أبي الطيب نفسه , واستخراجه معاني شعره من تلك الحوادث , وتهجمه دائماً على ذكر الحوادث القريبة , تجد في هذه القصائد ما يشير إلى هذه الواقعة وما لقي فيها من الكيد .
و الظاهر أن هذه الجفوة التي كانت في سنة 341هـ , امتدت إلى أوائل سنة 342 هـ , وكان من جرّائها أن انقطع أبو الطيب مدة عن مدح سيف الدولة فاستبطأه و تنكر له , فركب سيف الدولة يوماً في رجاله , وقدم عليه أبو الطيب راكباً مهره , فلما سلّم عليه ازورّ عنه و أعرض , فقال أبو الطيب :
أرى ذلكَ القُرْبَ صارَ ازْوِرارَا.............وَصارَ طَوِيلُ السّلامِ اختِصارَا
تَرَكْتَنيَ اليَوْمَ في خَجْلَةٍ..................أمُوتُ مِراراً وَأحْيَا مِرارَا
أُسَارِقُكَ اللّحْظَ مُسْتَحْيِياً.................وَأزْجُرُ في الخَيلِ مُهري سِرارَا
وَأعْلَمُ أنّي إذا ما اعتَذَرْتُ...............إلَيْكَ أرَادَ اعْتِذاري اعتِذارَا
كَفَرْتُ مَكارِمَكَ البَاهِرا.................تِ إنْ كانَ ذلكَ مني اخْتِيارَا
ثم يذكر العلة في ذلك الانقطاع عن مدحه فيقول :
وَلَكِنْ حَمَى الشّعْرَ إلاّ القَليـ...............ـلَ هَمٌّ حَمَى النّوْمَ إلاّ غِرارَا
وَما أنَا أسقَمْتُ جسمي بِهِ.................وَلا أنَا أضرَمتُ في القلبِ نَارَا
فَلا تُلزِمَنّي ذُنُوبَ الزّمَانِ،.................إلَيّ أسَاءَ وَإيّايَ ضَارَا
و هذا الهم الذي يسقم الجسم و يضرم ناراً في القلب , ولا يملك له الإنسان رداً , لا يكون إلا هذا الحب العنيف الذي تتقطع دونه الآمال , ولا يكون هذا الهم إلا ذلك , فإن أبا الطيب كان ممتّعاً بكل شيء في ظل سيف الدولة , فقد كان صاحب إقطاع ومال كثير قد أسبغه عليه سيف الدولة . ثم أنظر ما في قوله في بيته الأخير , من الجزع المشوب بالعزة والترفع , والرقة أيضاً .
و حسبك هذا من شعره وهو في جوار سيف الدولة , ثم أنظر إلى أثر هذا الحب في شعره بعد فراق سيف الدولة , فإنه أدلّ و أبلغ في الكشف عن سر قلبه , ولا بأس في أن نسرد لك ذلك على ما وقع في ترتيب ديوانه .
فمن آثار هذا الحب في شعر أبي الطيب , ما وقع في قصيدته الأولى التي أنشدها كافوراً في جمادى الآخرة سنة 346هـ , حين قدم عليه بالفسطاط . وقد رأيت قبل أننا نتعرض لعاطفة أبي الطيب في شعره إلى أن اتصل بسيف الدولة , فإذا أنت عدت إلى شعره في ذلك العهد الأول , لم تجد فيه إلا قسوة و شدة وعنفاً ليس لشعر, وقلّما لان الرجل أو ترقّق إلا متكلفاً الغزل . وكان قد فارق قبل سيف الدولة رجالاً أحبهم وصحبهم و باذلهم مكنون صدره من الودّ , ولم يظهر في شيء من شعره بعد فراقهم أثرٌ لهذا الفراق إلا قليلاً . و لكنه حين فارق سيف الدولة ودخل مصر اختلف الأمر اختلافاً بيناً , و ظهرت في شعره رقة لا عهد له بها , ولا تكون العلة في هذه الرقة التي ظهرت فيه بعد أن جاوز الأربعين , واستحكم و استمر مريره , واستوت طبيعته على طريقة من القوة و التشدد والاستمساك =لا تكون من أجل فراقه سيف الدولة وحسب , فإن ذلك الفراق بين (الرجلين) لا يعمل في تغيير الطبيعة المتأصلة كل هذا العمل . وليس لشيء من العمل في تغيير الطبائع و تبديلها مثل ما للحب في القدرة على ذلك . وكان أبو الطيب حين فارق سيف الدولة , يتلفَّتُ قلبه على تلك التي خلّفها من ورائه , وخلّف عنده قلبه و عواطفه , فأثار ذلك في قلبه ذكرى و آلاماً , جعلت الدنيا تضيق بها نفسه و تضجر منها .
فكان أول ما لقي كافوراً لقيه بالبيت الذي عدّه الأدباء و النقاد من سوء أدب المتنبي و جفائه و غلظته . وليس الأمر على ذلك , فإن الرجل لم يكن جافياً ولا غليظاً ولا سيء َ الأدب , ولا ضعيف البيان , ولكنه كان كما حدَّثناك مرهق الحس , تغلبه العاطفة على أمره فلا يملك لبيانه تصريفاً , بل تُصَرِّفُ عاطفته هذا البيان كما شاءت , والعاطفة لا تعرف أميراً ولا كبيراً , ولا تفرّق بين لقاء الملوك و لقاء الصعاليك , فلذلك رمى في وجه كافور بهذا , في شهر جمادى الآخرة سنة 346هـ :
كفى بكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا...........وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا
تَمَنّيْتَهَا لمّا تَمَنّيْتَ أنْ تَرَى.................صَديقاً فأعْيَا أوْ عَدُواً مُداجِيَا
ثم يمضي أبو الطيب على طريقته حتى يرقّ رقّةً , لو أنت قلّبت ديوانه لم تجد لها شبيهاً ولا مثيلاً , وذلك قوله في خطاب قلبه , ذلك القلب الذي حطم فيه فراق "خولة" و هدّ بنيان رجولته و قوّته :
(حَبَبْتُكَ قَلْبي قَبلَ حُبّكَ من نأى..............وَقد كانَ غَدّاراً فكُنْ أنتَ وَافِيَا)
(وَأعْلَمُ أنّ البَينَ يُشكيكَ بَعْدَهُ...............فَلَسْتَ فُؤادي إنْ رَأيْتُكَ شَاكِيَا)
(فإنّ دُمُوعَ العَينِ غُدْرٌ بِرَبّهَا..............إذا كُنّ إثْرَ الغَادِرِين جَوَارِيَا)
إذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً من الأذَى..........فَلا الحَمدُ مكسوباً وَلا المالُ باقِيا
وَللنّفْسِ أخْلاقٌ تَدُلّ على الفَتى.................أكانَ سَخاءً ما أتَى أمْ تَسَاخِيَا
(أقِلَّ اشتِياقاً أيّهَا القَلْبُ رُبّمَا..............رَأيْتُكَ تُصْفي الوُدّ من ليسَ صافيَا)
(خُلِقْتُ ألُوفاً لَوْ رَجعتُ إلى الصّبَى...........لَفارَقتُ شَيبي مُوجَعَ القلبِ باكِيَا)
أيُّ رِقَّةٍ , و أيُّ توجًّعٍ , وأيُّ جَمَال !!
فاقرأ الآن الأبيات و تدبرها , و أنظر في خطابه قلبه ــ على غير عادته ــ خطاباً رقيقاً متنهداً ذا زفرات, و أنظر اضطراب أمره بين قلبه و فكره , وبين عاطفته ورجولته , يقول لقلبه : (( لست فؤادي إن رأيتك شاكياً )) , ثم يعود فيقول : (( خلقت ألوفاً ........)) فليس للأبيات حبه لسيف الدولة و حسب , بل فيه نفحات من لوعة الحبّ الذي يستولي على القلب : حب المرأة التي يهجرها الرجل وهو يعلم يقيناً أن لا يهجرها , وإنما يُهاجر قلبه الذي بين جنبيه و يعانده ويراغمه .
هذا , وقد ظهر نفس هذا الأثر في كثير من شعر المتنبي , وهو في جوار كافور , بعد فراقه سيف الدولة. ظهر في حكمته ظهوراً بيناً , وذلك كقوله , وذلك في رمضان سنة 346هـ :
لَيتَ الحَوَادِثَ باعَتني الذي أخذَتْ...........مني بحِلمي الذي أعطَتْ وَتَجرِيبي
فَمَا الحَداثَةُ من حِلْمٍ بمَانِعَةٍ................قد يُوجَدُ الحِلمُ في الشبّانِ وَالشِّيبِ
وهذا القول ليس من مذهب المتنبي في كلامه الأول إلى فراقه سيف الدولة . و مثل ذلك قوله , في ذي الحجة سنة 346هـ :
أوَدُّ مِنَ الأيّامِ مَا لا تَوَدُّهُ...............وَأشكُو إلَيهَا بَيْنَنَا وَهْيَ جُنْدُهُ
(باعِدْنَ حِبّاً يَجْتَمِعْنَ وَوَصْلُهُ...........فكَيفَ بحِبٍّ يَجْتَمِعنَ وَصَدُّهُ !؟)
(أبَى خُلُقُ الدّنْيَا حَبِيباً تُديمُهُ................فَمَا طَلَبي مِنهَا حَبيباً تَرُدّهُ )
ثم تلفّت المتنبي إلى ما كان من فراقه "خولة" ومهاجرتها مراغماً قلبه , متكلفاً الصبر و الجلد , فقال في عقب ذلك :
وَأسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّراً...............تَكَلفُ شيءٍ في طِباعِكَ ضِدّهُ
وكان أبو الطيب يظن أن في الفراق ما ينسيه "خولة" و يمحو من قلبه آثارها . وقد فارق , وعلم أن ذلك لن يكون , وأن ما كان من اندفاعه و مراغمته عند أول الفراق , إنما كان أمراً يخالف طبيعة حبّه التي وصفها في شعره قبلُ وهو عند سيف الدولة بقوله :
إلامَ طَماعِيَةُ العاذِلِ..................ولا رأيَ في الحُبّ للعاقِلِ
يُرادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيانُكُمْ...............وتأبَى الطّباعُ على النّاقِلِ
هذا .......... و إذا أنت أخذت في دراسة شعره في المدح و الحكمة في هذه الفترة , وجدت آثار هذا الحب الذي انقطعت منه آمال اللقاء و الابتسامة و التلطّف , وما رُمي في قلب أبي الطيب من الكمد و الحسرة والأسف و الحنين , فأصبح كلامه و بيانه من تلك العواطف اليائسة التي انطوى عليها قلبه , واضطرب بها ضميره و فكره , وبذلك تميّز شعره في هذا العهد , من شعره فيما سبقه , وتباين عنه تبايناً عظيماً .
و يقول أبو الطيب يذكر فارقه سيف الدولة و مقدمه على كافور , وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 347هـ :
فِراقٌ وَمَنْ فَارَقْتُ غَيرُ مُذَمَّمِ................وَأَمٌّ وَمَنْ يَمّمْتُ خيرُ مُيَمَّمِ
وَمَا مَنزِلُ اللّذّاتِ عِندي بمَنْزِلٍ.................إذا لم أُبَجَّلْ عِنْدَهُ وَأُكَرَّمِ
سَجِيّةُ نَفْسٍ مَا تَزَالُ مُليحَةً...................منَ الضّيمِ مَرْمِيّاً بها كلّ مَخْرِمِ
(رَحَلْتُ فكَمْ باكٍ بأجْفانِ شَادِنٍ................عَلَيّ وَكَمْ بَاكٍ بأجْفانِ ضَيْغَمِ)
(وَمَا رَبّةُ القُرْطِ المَليحِ مَكانُهُ...............بأجزَعَ مِنْ رَبّ الحُسَامِ المُصَمِّمِ)
(فَلَوْ كانَ ما بي مِنْ حَبيبٍ مُقَنَّعٍ..............عَذَرْتُ وَلكنْ من حَبيبٍ مُعَمَّمِ)
(رَمَى وَاتّقى رَميي وَمن دونِ ما اتّقى.......هوًى كاسرٌ كفّي وقوْسي وَأسهُمي)
(الشادن) : ولد الغزال , يريد به المرأة الغريرة الحسناء
(الضيغم) : الأسد .
فهو بالبيت الأول قد عيّن من أراد بهذه القصيدة , فالذي فارقه هو سيف الدولة , و الذي قصده و يمَّمه هو كافور , وعلى ذلك اتفق الشراح جميعاً , فلما أتى البيت الرابع قال : ((رحلت)) يعني رحلته عن حلب , ثم ذكر بعده ما كان من جرّاء هذا الفراق , وأبان عن الذي كان سبباً فيه , وقابل في ذلك بين اثنين: رجل وامرأة . فذكر باكية تبكي على فراقه بعيني غزال , وباكياً يبكي بعيني أسد , وجازعة لفراقه زينتها القرط الذي في أذنها , وجازعاً زينته حسامه . وقد اتفق الشراح أيضاً = ولا شك فيما قصده أبو الطيب = على أنه قصد سيف الدولة بقوله (ضيغم) , وقوله ( رب الحسام المصمم) . والمقابلة بين سيف الدولة و هذه المرأة دليل على صلتها بسيف الدولة و بأبي الطيب , ومعرفة سيف الدولة بهذه الصلة , ولا نشك بعد ما رأيت أنه عنى بالباكية الجازعة لفراقه "خولة" أخت سيف الدولة , ثم قال بعد : (( فلو كان ما بي من حبيب مقنع عذرت )) وصبرت على ما يصيبني من لحبي إياه , و الأذى من المرأة المحبوبة ينزل من قلب المحبّ منزلة الرضا , فهو لا يحمل على فراق و لا بين , ولكن الذي حملني على الفراق كون هذا الأذى إنما أصابني (( من حبيب معمم) هو سيف الدولة . ثم صرح في البيت الأخير مبيناً عن هواه فقال : إن سيف الدولة رماه بسهمه (يريد الأذى الذي أصابه منه) , و اتقى بدرعه أن يرميه أبو الطيب بسهم مثله , وهذا الاتقاء من سيف الدولة عمل لا محل له , إذ كان يعلم يقيناً أن أبا الطيب لن يرميه جزاء له كما رماه , لما في قلبه من حب "خولة" أخته وهواها الذي يحبس يده , ويكسر كفّه , و يحطم قوسه , ويدقّ سهمه .
هذا ...... وقد رووا أن أبا الطيب اتّصل به وهو بمصر أن قوماً نَعَوُهُ في مجلس سيف الدولة بحلب , فقال قصيدة يذكر ذلك و لم ينشدها كافوراً , وكان مما جاء في أولها قوله :
بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ.....................وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني.................مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلاّ غَيرَ مُكتَرِثٍ...............ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَكَ البَدنُ
فَمَا يُديمُ سُرُورٌ ما سُرِرْتَ بِهِ...................وَلا يَرُدّ عَلَيكَ الفَائِتَ الحَزَنُ
(مِمّا أضَرّ (بأهْلِ العِشْقِ) أنّهُمُ............هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا)
(تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ..................في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ)
تَحَمّلُوا حَمَلَتْكُمْ كلُّ ناجِيَةٍ........................فكُلُّ بَينٍ عَليّ اليَوْمَ مُؤتَمَنُ
(ما في هَوَادِجِكم من مُهجتي عِوَضٌ...........إنْ مُتُّ شَوْقاً وَلا فيها لهَا ثَمَنُ)
يَا مَنْ نُعيتُ على بُعْدٍ بمَجْلِسِهِ................كُلٌّ بمَا زَعَمَ النّاعونَ مُرْتَهَنُ
كمْ قد قُتِلتُ وكم قد متُّ عندَكُمُ.................ثمّ انتَفَضْتُ فزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
وفي هذه الأبيات عندنا قول كثير نوجزه و نمدُّ منه أطرافاً نتفادى بها الإطالة ............ , ففي الأبيات الأولى تأخذ عينك أثر الأحزان التي كانت في قلب الرجل متمثلة مصورة في شعره . و تدبّر عبارته عن آلامه بقول : ((بم التعلُّل ؟)) .....!! و تأمّل هذا السكون الذي يعقب استفهامه و تعجبه , فهو بيان في غير لفظ , ثم يعود إلى القول فيقول : (( لا أهل , ولا وطن , ولا نديم , ولا كأس , ولا سكن )) فقد كان بمصر وليس بها أحد يسكن إليه إلا ولده "محسّد" , وهو مهاجر لا وطن له , وهو بمصر غريبٌ لا صديق له ولا نديم , وقد سئمت نفسه كل شيء حتى الكأس من الخمر لا تسليه ولا تحركه . ثم تمّم ذلك بلوعة قلبه , إذ فقد سكنه وحبيبه الذي يسكن إليه و يأويه . ثم مضى ينتقل في المعن حتى انتقل من تجلّده تارة , ومن أحزانه تارة أخرى , إلى الداء الذي يَسُلُّ قلبه و يسقمه , فقال منتقلاً على عادته التي بينّاها قلب :
(مِمّا أضَرّ (بأهْلِ العِشْقِ) أنّهُمُ............هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا)
وهو بيان عن نفسه وما يحزُّ فيها من آلام " خولة" , وما لقيه بعدا من الاضطراب بين رجولته التي تأبى أن تخضع أو تضعف , و بين عواطفه التي تأبى إلا أن تخشع لخولة , و تتعبد بذكرها وهواها وآلام حبها . وكان من جراء هذا الاضطراب أن أنكر (الرجل) قلبه , و قسا عليه و تعنّف به , وذمّ له هذه التي قد تولّه بها , وهي التي أضرّت به و أشقته و عذّبته , شفهاً و جهلاً منه , إذ أراد ما لا يكون , وما تأتي به الأقدار , ولا ترضى به التقاليد الاجتماعية في هذه الدنيا , كما ذكر في البيت الماضي , فقال في عقب ذلك معانداً و مراغماً لما في قلبه:
(تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ..................في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ)
يرحمك الله يا أبا الطيب ...ثم انطلق يعاند قلبه , ويذم له "خولة" , ولا ذنب لها إلا ما تكلّفه هو بالفراق وبإرادة نسيانها , (( وتأبى الطباع على الناقل)) أن يكون ذلك . ثم أنظر خطابه بعد لسيف الدولة بقوله :
يَا مَنْ نُعيتُ على بُعْدٍ بمَجْلِسِهِ................كُلٌّ بمَا زَعَمَ النّاعونَ مُرْتَهَنُ
فوربّك إني لأخال أبا الطيب قد قال هذا البيت وهو يبكي , فإن في الشطر الأخير عبرات من دمعه لا تزال تجول فيه و تترقرق . فكل ذلك آثار بينة على انتقال طبيعة أبي الطيب من تكبرها و عتوّها و تزمّتها , إلى حالة نفسية طارئة قد نفذت فيه آلامها و أهوالها , فهو يعاني منها ما يعاني , و يضطرب لها و يهتز و يتلذع , حتى كان شعره بعد فراق سيف الدولة كثير الشكوى , مخالطاً بالحزن و الحسرة و الألم , وقد تنبه إلى ذلك أبو الطيب نفسه , فقال في قصيدة من مدائحه لكافور , في شوال سنة 347هـ :
لحَى الله ذي الدّنْيا مُناخاً لراكبٍ................فكُلُّ بَعيدِ الهَمّ فيهَا مُعَذَّبُ
ألا لَيْتَ شعري هَلْ أقولُ قَصِيدَةً................فَلا أشْتَكي فيها وَلا أتَعَتّبُ
وَبي ما يَذودُ الشّعرَ عني أقَلُّهُ...................وَلَكِنّ قَلبي يا ابنَةَ القَوْمِ قُلَّبُ
وهذا الذي مما يذود عنه الشعر و يمنعه من أن يقوله , هو الذي ذكره أوّلاً فيما تقدم :
وَلَكِنْ حَمَى الشّعْرَ إلاّ القَليـ...............ـلَ هَمٌّ حَمَى النّوْمَ إلاّ غِرارَا
وَما أنَا أسقَمْتُ جسمي بِهِ.................وَلا أنَا أضرَمتُ في القلبِ نَارَا
وهو حب "خولة" الذي ملأ قلب الرجل و أخذه و تفرّد به دون فكره و إرادته .
فلما ماتت "خولة" رحمها الله سنة 352هـ بعد خروجه من مصر , تغيرت طبيعة أبي الطيب و اسودّت الدنيا في عينه , وامتلأ قلبه حزناً , وتقطعت نفسه عليها حسرات , فكان شعره بعدُ من هذه المادة , و أوّل ذلك ما كان من شعره في القصيدة التي رثاها بها , إذ يقول لسيف الدولة :
فَلا تَنَلْكَ اللّيالي، إنّ أيْدِيَهَا..................إذا ضَرَبنَ كَسَرْنَ النَّبْعَ بالغَرَبِ
وَلا يُعِنّ عَدُوّاً أنْتَ قاهِرُهُ..................فإنّهُنّ يَصِدْنَ الصّقرَ بالخَرَبِ
(وَإنْ سَرَرْنَ بمَحْبُوبٍ فجَعْنَ بهِ...............وَقَد أتَيْنَكَ في الحَالَينِ بالعَجَبِ)
(وَرُبّمَا احتَسَبَ الإنْسانُ غايَتَهَا................وَفاجَأتْهُ بأمْرٍ غَيرِ مُحْتَسَبِ)
وَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ......................وَلا انْتَهَى أرَبٌ إلاّ إلى أرَبِ
تَخالَفَ النّاسُ حتى لا اتّفاقَ لَهُمْ.............إلاّ على شَجَبٍ وَالخُلفُ في الشجبِ
فقِيلَ تَخلُصُ نَفْسُ المَرْءِ سَالمَةً.............وَقيلَ تَشرَكُ جسْمَ المَرْءِ في العَطَبِ
وَمَنْ تَفَكّرَ في الدّنْيَا وَمُهْجَتهِ..................أقامَهُ الفِكْرُ بَينَ العَجزِ وَالتّعَبِ
و أعد قراءة الأبيات الثلاثة الأخيرة , وتدبر نفس أبي الطيب فيها , فهو يكاد ينقطع و يسقط من العجز و التعب و الفكر في الذي أصابه بموت حبيبته "خولة" . فإذا أردت أن تعرف تمام حالة أبي الطيب هذه , وامتداد فكره فيها , فاقرأ قصيدته التي قالها حين توفيت عمة عضد الدولة بن بويه سنة 354هـ , قبيل موت أبي الطيب بقليل و التي يقول فيها :
نحنُ بَنُو المَوْتَى فَمَا بالُنَا...................نَعَافُ مَا لا بُدّ من شُرْبِهِ
....................................
لَوْ فكّرَ (العاشِقُ) في مُنْتَهَى...................حُسنِ الذي يَسبيهِ لم يَسْبِهِ
صلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله و أصحابه و سلم
اللهم أعني على ذكرك و شكرك وحسن عبادتك